أ . عالية فريد >> مشاركات


الإيمان حين يتدفق في العروق مشاركة في وفاة الشيخ أحمد سعيد المطرود

27 مايو 2002 - أ . عالية فريد

كلنا ندرك حقيقة الموت ونستشعر وقعه الصعب على نفوسنا ، لكن الأصعب أن يختطف القدر عزيزا ما فجأة ودون سابق إنذار عندها لانملك إلا قول إنا لله وإنا إليه راجعون ، ولاحول ولاقوة إلا بالله ، الذي لاراد لقضائه .. هكذا رزئنا وفجعنا برحيل فقيدنا الغالي الشيخ أحمد سعيد المطرود ( تغمده الله بواسع رحمته وأسكنه فسيح جنته) فقد كان رحيله خسارة كبيرة ليس لأهله وذويه فقط بل لمجتمعه وأمته ، فكثرة العلماء وإجتماعهم وعطائهم ونشرهم لمبادئ الدين وأحكام الشريعة قوة للإسلام وقوة للمجتمع والأمة ، وإن في إفتقادهم ورحيلهم وفرقتهم تمكين لغلبة الأعداء وتكالبهم وضعف للمجتمع والأمة وهذا معنى الحديث في قول رسول الله (ص) ” إذا مات العالم ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها شيئ”.
وما عساني أن أكتب أو أتحدث في شخصية الفقيد الراحل ، فإن قلمي ليعجز ولساني ليكل لما تحلى به من مثل أخلاقية عليا ، ولما تجلى به في حياته من قيم إنسانية عظيمة قل من يحملها في هذا العصر المليْ بالمغريات والمفاسد والأطماع والشهوات إلا من أستخلصه الله إليه ورفعه مكانا عليا .
فشتان بين عالم وعالم ، عالم رباني زهر مصباح الهدى في قلبه ، فتسربل الحزن وتجلبب الخوف ومضى في طريق الله يجسد الحق خطوة خطوة بنفس مطمئنة ويقين ثابت وجنان يتوقد ، ووجدان يلتهب شوقا وحبا في ملاقات الخالق عز وجل ، فما أعظمه من لقاء ، إنه الذوبان الحقيقي في حب الله وطاعته وعشق لقائه ، فمن عشق لقاء الله عصم نفسه من الذل ، ومن عصم نفسه سما وتطهر وعلا ليكون في مرتبة المتقين ، ورفيقا مع الأولياء والصالحين ، هكذا كان الشيخ أحمد سعيد المطرود ، وهكذا عرفته من خلال تعاملي معه ومراجعاتي إياه لدروس الفقه ، وحين تحار بي المسألات .
كانت دفقات الإيمان تجري في عروقه ، وشرارة التقوى تلمع في داخله عابدا زاهدا متحررا من شهواته ، لم أدخل منزله يوما إلا وهو في حالات ثلاث إما جالسا على سجادته يصلي ، أو مسبغ لوضوء ، أو جالسا يحتضن كتاب الفقه إستعدادا للدرس ، في بعض الحلقات كنت أسترق النظرإلى وجهه المشرق بالذات عندما يسخن النقاش وتشتد حرارة المباحثة وسط المسائل الفقهية ، كنت أناقشه وأحاوره وأجادله أحيانا فيزيد إعجابي به ودهشتي وإستغرابي ، كيف يكون ملما وعارفا ومطلعا يغوص عمقا في بحر الفقه لهذا الحد ، ولايملك إلا أن يسكتني بعمق أفكاره وتوسعه وإلمامه ، فأستزيد فيضا من نور وجهه المتلألأ بالإيمان ، فأعلم حينها أنها فراسة المؤمن فالمؤمن ينظر بنور الله ، كان رحيله قد جسد رحلة إنسانية في أعماق الضمير لكل من عرفه وكان قريبا منه ، هذه الرحلة إستوعبت الماضي والحاضر وإفول المستقبل لكل من تطلع العيش في ظل حياة سعيدة وطيبة .
كان عابدا زاهدا عاشقا لله محبا للصلاة ، كريما بخلقه وأخلاقه وسجاياه لم أره يوما غاضبا قط ، جسد الزهد في حياته البسيطة ومعيشته المتواضعة ، وهنا قد يتعفف البعض من العلماء ويزهدون في حياتهم لكنهم يبتعدون عن الآخرين ويعيشون عزلة إجتماعية من أجل التفرغ للعبادة ، ويهجرون المجتمع خوفا من الرياء والسمعة وحب الظهور فيحرمون الناس من الإستفادة منهم ومن أفكارهم وعلومهم ومواقفهم ، لذلك يجهلهم المجتمع ولا يتعرف على حياتهم إلا بعد رحيلهم وفي ذكرى وفاتهم ، بينما العلماء الواعون هم الذين يمارسون دورهم الطبيعي وحياتهم العبادية وزهدهم ودعوتهم لمبادئ الإسلام ، وفي نفس الوقت نراهم حذرين من حب الظهور والسمعة متسلحين بالتواضع متهمين أنفسهم بالتقصير ، مبتعدين عن كلمات المدح والثناء يمدون المجتمع والأمة بفيض علومهم ، وهذا ما جسده الفقيد في شخصيته ، فالإمام علي (ع) يقول ( ليس الزهد أن لا تملك الشيئ ولكن الزهد أن لا يملكك الشيئ ) ، وقال رسول الله (ص) ( إن الزهد ليس بتحريم الحلال ولكن أن يكون بما في يدي الله أوثق منه بما في يديه ) فرحمك الله ياشيخ احمد أيها العالم الجليل لقد زكى نفسه وطاب سلوكه وحسنت مزاياه ، فكان داعيا للناس بسلوكه ونموذجا مصداقا في إلتزامه بعبادته وقيمه ، ورعا تقيا كانت علاقته بالصلاة علاقة وثيقة فهو يعشقها كما يعشق ذكر الله وقربه منه في كل وقت ، لم يتوقف عن صلاة الليل ولم يقطعها ، وكثيرا ما كان يؤكد عليها ويكرر دائما قول الإمام الصادق (ع) ” يعرف شيعتنا بصلاة واحد وخمسين ) كان مواظبا على آداء المستحبات ويعقبها بمقام الواجب في عبادته آخذا بالإحتياط في مختلف أمور الشريعة الإسلامية ، وهكذا رحمة الله عليه عاش حياة الصالحين حتى أصبح مصدر خير للجميع .
ومن هنا يجب علينا نحن كمجتمع أن نحترم علماؤنا ونقدرهم ونلتف حولهم ، وأن لاتكون إستفادتنا منهم محصورة في إطار تأدية مناسك الحج ، أو في التعرض لمسائل فقهية حرجة ، أو تناول الخيرة والحيرة في أمر ما ، أو تفسير رؤيا فقط بل علينا مجالستهم والإستفادة من حياتهم وعلومهم وإتخاذها منهجا وسلوكا .

أضف تعليقاً