مركز إيلاف >> مقالات مختارة

  فرطُ الحركةِ، هذا العجيب!

June 15, 2010 - محرر الموقع

فرطُ الحركةِ، هذا العجيب!

نجيب الزامل

.. كنتُ في الأمس متحدثاً في مؤتمر «فرط الحركة، وتشتت الانتباه»، بالرياض.
مرضٌ لا نعرف عنه الكثير، مرضٌ أهملناهُ كثيرا، وأهملنا من لديهم المرض أكثر. ويجب ألا يستمرُ الإهمالَ. والمؤتمرُ صرخةٌ في عالم الصمتِ، وتنبيه في تيْهِ التجاهل للمرض الذي يُقال إنه يصيب عشرين بالمئة من أطفالِنا.. والسكوتُ عنه نوعٌ يتعدى مسألةَ الإهمال.. إلى درجاتِ الإثم.
وأشكر القائمين على المؤتمر، و»جمعية فرط الحركة وتشتت الانتباه»، الذين ـ تـَطـوُّعاً، وإحساسا بمشكلة تسري في المجتمع ـ تولـّوا مهمة التوعية عن المرض، ويحاولون بكل ما أوتوا تعليقَ الجرس في رقابنا جميعا.. لأنها مسئولية رسمية، وجماعية، وفردية.. وأرجو رجاء أن يقوم كل واحد منكم بالاستعلام عن المرض، وصفاته، ومظاهره، وهذا مهمٌ جدا ليس فقط للعلم عنه، أو للإفادة العامة فحسب، ولكن لأنه (قد) يتعلق مباشرة بكلٍّ منا، فمن يعلم مَن مِن أبنائنا يحملُ المرضَ ونحن لا نلاحظ ولا نعلم، فنسبب للطفل أذى دائماً يستمر طيلة حياته، فمن المعروف أن كثيراً من جُنـَح الأطفال المسجلة في الخارج، ارتكبها مصابون بهذا المرض، وكذلك المدمنون، والخارجون عن النظام والقانون.. وفي الطرف الآخر، لمن انضبطوا تربية وعناية، صاروا من العباقرة.. بل بعضهم من عباقرةِ العالم.
وإني حائرٌ والله إن كنت اسميه مرضا، أم ظاهرة، فما زالتْ مناطق كثيرة من الدماغ مُعتمة جدا، ولا نعلم عنها إلا القليل، بل إننا كبشريةٍ كشفنا عن بعض روائع ومعجزات العقل فقط بالعقودِ الأخيرة.. ولدي كتابٌ من أهم مقتنياتي، واسمه (الدماغ Brain) ضخمٌ جدا، من أكثر من ألف وثمانمائة صفحة، وحروف صفحاته من صغرها، تكاد تحتاج مجهراً لقراءتها.. واشترك في كتابته أكثر من مائتي عالم وباحث.. أول صفحة فيه بيضاء كقلبِ الخالي، إلا من سطرٍ واحدٍ كُتِب فيه:» أمام المخ نحن كطفلٍ صغيرٍ يلعبُ بالرملِ على شاطئ محيط».
.. لذا، لا نعلم كيف تتم هذه التغيرات في وظائف المخ العصبية الكهربية الهرمونية فمنها تتكون شخصياتنا، فنحن مرتهَنون لهذا الجهاز اللـّدِن الذي لا يتعدى وزنه ثلاثة أرطال داخل جماجمنا.. إنه يقرر (ما) نحن.. وهو يقرر (من) نحن.
هل هو صراعٌ بين حجرات هذا الدماغ، هذه الحجرات الوجدانية والعقلية والمنطقية والروحانية، فيقفز فجأة واحد منها ويستلم كرسي القيادة.. فتتغير الشخصياتُ وتتلون الصفاتُ، وتتبدلُ الأمزجة؟ الحقيقة لا نعلم بالتحديد، حتى الآن، لا أحد يعلم، وهنا تستدرك أن اللهَ أمرنا بالتبصّر في أنفسِنا.. فكلّ منا، مهما كُنا، معجرة تمشي على الأرض!
والأخواتُ والإخوان في الجمعية فتحوا أمامي آفاقاً مذهلة حقا، ليت المكان يسع لأروي لكم كيف أني أخذت الموضوع بجديةٍ كاملةٍ حين أفصح لي أحدُ علمائِنا المصابين بالمرض في طفولته ( وتعدّاها الآن) عن أسماء شخصياتٍ كبرى وقيادية ناجحة في الخليج تملأ الأسماعَ والأنظار، فشددتُ رحالي إلى كل دولةٍ فيها تلك الشخصيات وقابلتهم فرداً فرداً.. منهم المسئول الكبير في عُمان، ومنهم المسئولة الناجحة، ومطرب في الإمارات ( وهو فيلسوف عميقٌ حقا، فتكلمنا عن كافكا، وبرخت، والكِنْدي، والغزالي. ولكن هؤلاء الناس يتمسكون بما يحبون، وحبُّه كان ومازال الطرَب)، وبرلماني كبير بالكويت، وتاجر معروف بالبحرين، ومؤسس شركة ناجحة بقطر.. ثم اجتمعت ببلدي مع جراحين، وفلاسفة من أرقى من عرفت وأذكاهم.
خرجتُ من التجربةِ وأنا مصاغ الذهن من جديد، وبروحٍ جديدة، وبفهمٍ جديد للعالم.. لم يؤثر بي مؤخرا أي ظرفٍ على الإطلاق كما أثر عليّ هؤلاء الناس المتميزون..
ولكن متى أهملناهم صغارا، فإن معاناتهم لا توصف.. وانتقامهم أيضا لا يوصف. لذا حان الوقت كي نقرع الطبلَ، ونُشعل لغات الدخان لتنتقل عبر الغابات التعليمية والتربوية والصحية ليضعوا لهذا المرض اهتماما استراتيجيا رئيسيا..
وإلا فإن الدماغ التلقائي سيكون له القرار.. وقد لا يعجبنا ذاك القرار!.



أضف تعليقاً